كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ولقد كان بعض هؤلاء المعتذرين المتخلفين المتربصين، قد عرض ماله، وهو يعتذر عن الجهاد، ذلك ليمسك العصا من الوسط على طريقة المنافقين في كل زمان ومكان. فرد الله عليهم مناورتهم، وكلف رسوله أن يعلن أن إنفاقهم غير مقبول عند الله، لأنهم إنما ينفقونه عن رياء وخوف، لا عن إيمان وثقة، وسواء بذلوه عن رضا منهم بوصفه ذريعة يخدعون بها المسلمين، أو عن كره خوفًا من انكشاف أمرهم، فهو في الحالتين مردود، لا ثواب له ولا يحسب لهم عند الله: {قل أنفقوا طوعًا أو كرهًا لن يتقبل منكم إنكم كنتم قومًا فاسقين وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله ورسوله ولا يأتون الصلاة إلى وهم كسالى ولا ينفقون إلا وهم كارهون}.
إنها صورة المنافقين في كل آن. خوف ومداراة، وقلب منحرف وضمير مدخول. ومظاهر خالية من الروح، وتظاهر بغير ما يكنه الضمير.
والتعبير القرآني الدقيق: {ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى}.
فهم يأتونها مظهرًا بلا حقيقة، ولا يقيمونها إقامة واستقامة. يأتونها كسالى لأن الباعث عليها لا ينبثق من أعماق الضمير، إنما يدفعون إليها دفعًا، فيحسون أنهم عليها مسخرون! وكذلك ينفقون ما ينفقون كارهين مكرهين.
وما كان الله ليقبل هذه الحركات الظاهرة التي لا تحدو إليها عقيدة، ولا يصاحبها شعور دافع. فالباعث هو عمدة العمل والنية هي مقياسه الصحيح.
ولقد كان هؤلاء المنفقون وهم كارهون ذوي مال وذوي أولاد، وذوي جاه في قومهم وشرف. ولكن هذا كله ليس بشيء عند الله. وكذلك يجب ألا يكون شيئًا عند الرسول والمؤمنين. فما هي بنعمة يسبغها الله عليهم ليهنأوا بها، إنما هي الفتنة يسوقها الله إليهم ويعذبهم بها:
{فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون}.
إن الأموال والأولاد قد تكون نعمة يسبغها الله على عبد من عباده، حين يوفقه إلى الشكر على النعمة، والإصلاح بها في الأرض، والتوجه بها إلى الله، فإذا هو مطمئن الضمير، ساكن النفس، واثق من المصير. كلما أنفق احتسب وشعر أنه قدم لنفسه ذخرًا، وكلما أصيب في ماله أو بنيه احتسب، فإذا السكينة النفسية تغمره. والأمل في الله يسري عنه.. وقد تكون نقمة يصيب الله بها عبدًا من عباده، لأنه يعلم من أمره الفساد والدخل، فإذا القلق على الأموال والأولاد يحول حياته جحيمًا، وإذا الحرص عليها يؤرقه ويتلف أعصابه، وإذا هو ينفق المال حين ينفقه فيما يتلفه ويعود عليه بالأذى، وإذا هو يشقى بأبنائه إذا مرضوا ويشقى بهم إذا صحوا، وكم من الناس يعذبون بأبنائهم لسبب من الأسباب!
وهؤلاء الذين كانوا على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وأمثالهم في كل زمان، يملكون الأموال ويرزقون الأولاد، يعجب الناس ظاهرها، وهي لهم عذاب على نحو من الأنحاء. عذاب في الحياة الدنيا، وهم- بما علم الله من دخيلتهم- صائرون إلى الهاوية. هاوية الموت على الكفر والعياذ بالله من هذا المصير.
والتعبير {وتزهق أنفسهم} يلقي ظل الفرار لهذه النفوس أو الهلاك. ظلًا مزعجًا لا هدوء فيه ولا اطمئنان، فيتسق هذا الظل مع ظل العذاب في الحياة الدنيا بالأموال والأولاد. فهو القلق والكرب في الدنيا والآخرة. وما يحسد أحد على هذه المظاهر التي تحمل في طياتها البلاء!
ولقد كان أولئك المنافقون يدسون أنفسهم في الصف، لا عن إيمان واعتقاد، ولكن عن خوف وتقية، وعن طمع ورهب.
ثم يحلفون أنهم من المسلمين، أسلموا اقتناعًا، وآمنوا اعتقادًا.. فهذه السورة تفضحهم وتكشفهم على حقيقتهم، فهي الفاضحة التي تكشف رداء المداورة وتمزق ثوب النفاق:
{ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم ولكنهم قوم يفرقون لو يجدون ملجأ أو مغارات أو مدخلًا لولوا إليه وهم يجمحون}.
إنهم جبناء. والتعبير يرسم لهذا الجبن مشهدًا ويجسمه في حركة. حركة النفس والقلب، يبرزها في حركة جسد وعيان:
{لو يجدون ملجأ أو مغارات أو مدخلًا لولوا إليه وهم يجمحون}.
فهم متطلعون أبدًا إلى مخبأ يحتمون به، ويأمنون فيه. حصنًا أو مغارة أو نفقًا. إنهم مذعورون مطاردون. يطاردهم الفزع الداخلي والجبن الروحي. ومن هنا:
{يحلفون بالله إنهم لمنكم}.
بكل أدوات التوكيد، ليداروا ما في نفوسهم، وليتقوا انكشاف طويتهم، وليأمنوا على ذواتهم.. وإنها لصورة زرية للجبن والخوف والملق والرياء. لا يرسمها إلا هذا الاسلوب القرآني العجيب. الذي يبرز حركات النفس شاخصة للحس على طريقة التصوير الفني الموحي العميق.
ثم يستمر سياق السورة في الحديث عن المنافقين، وما يند منهم من أقوال وأعمال، تكشف عن نواياهم التي يحاولون سترها، فلا يستطيعون. فمنهم من يلمز النبي صلى الله عليه وسلم في توزيع الصدقات، ويتهم عدالته في التوزيع، وهو المعصوم ذو الخلق العظيم، ومنهم من يقول: هو اذن يستمع لكل قائل، ويصدق كل ما يقال، وهو النبي الفطن البصير، المفكر المدبر الحكيم. ومنهم من يتخفى بالقولة الفاجرة الكافرة، حتى إذا انكشف أمره استعان بالكذب والحلف ليبرئ نفسه من تبعة ما قال. ومنهم من يخشى أن ينزل الله على رسوله سورة تفضح نفاقهم وتكشفهم للمسلمين.
ويعقب على استعراض هذه الصنوف من المنافقين، ببيان طبيعة النفاق والمنافقين، ويربط بينهم وبين الكفار الذين خلوا من قبل، فأهلكهم الله بعد ما استمتعوا بنصيبهم إلى أجل معلوم. ذلك ليكشف عن الفوارق بين طبيعتهم هذه وطبيعة المؤمنين الصادقين، الذين يخلصون العقيدة ولا ينافقون.
{ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم}.
من المنافقين من يغمزك بالقول، ويعيب عدالتك في توزيع الصدقات، ويدعي أنك تحابي في قسمتها. وهم لا يقولون ذلك غضبًا للعدل، ولا حماسة للحق، ولا غيرة على الدين، إنما يقولونه لحساب ذواتهم وأطماعهم، وحماسة لمنفعتهم وأنانيتهم:
{فإن أعطوا منها رضوا} ولم يبالوا الحق والعدل والدين!
{وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون}!
وقد وردت روايات متعددة عن سبب نزول الآية، تقص حوادث معينة عن أشخاص بأعيانهم لمزوا الرسول صلى الله عليه وسلم في عدالة التوزيع.
روى البخاري والنسائي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: بينما النبي صلى الله عليه وسلم يقسم قسمًا إذ جاءه ذو الخويصر التميمي، فقال: أعدل يا رسول الله. فقال: «ويلك! ومن يعدل إذا لم أعدل؟» فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه ائذن لي فأضرب عنقه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «دعه فإن له أصحابًا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم في الرمية...» قال أبو سعيد، فنزلت فيهم: {ومنهم من يلمزك في الصدقات}.
وروى ابن مردويه عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: لما قسم النبي صلى الله عليه وسلم غنائم حنين سمعت رجلًا يقول: إن هذه قسمة ما أريد بها وجه الله. فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت له ذلك فقال: «رحمة الله على موسى لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر» ونزل: {ومنهم من يلمزك في الصدقات}.
وروى سنيد وابن جرير عن داود بن أبي عاصم قال: أتي النبي صلى الله عليه وسلم بصدقة فقسمها هاهنا وها هنا حتى ذهبت، ورآه رجل من الأنصار فقال: ما هذا بالعدل. فنزلت هذه الآية.
وقال قتادة في قوله: {ومنهم من يلمزك في الصدقات} يقول: ومنهم من يطعن عليك في الصدقات. وذكر لنا أن رجلًا من أهل البادية حديث عهد بأعرابية أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقسم ذهبًا وفضة، فقال: يا محمد والله لئن كان الله أمرك أن تعدل ما عدلت، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: «ويلك فمن ذا الذي يعدل عليك بعدي؟».
وعلى أية حال فالنص القرآني يقرر أن القولة قولة فريق من المنافقين. يقولونها لا غيرة على الدين، ولكن غضبًا على حظ أنفسهم، وغيظًا أن لم يكن لهم نصيب.. وهي آية نفاقهم الصريحة. فما يشك في خلق الرسول صلى الله عليه وسلم مؤمن بهذا الدين، وهو المعروف حتى قبل الرسالة بأنه الصادق الأمين، والعدل فرع من أمانات الله التي ناطها بالمؤمنين فضلًا على نبي المؤمنين. وواضح أن هذه النصوص تحكي وقائع وظواهر وقعت من قبل، ولكنها تتحدث عنها في ثنايا الغزوة لتصوير أحوال المنافقين الدائمة المتصلة قبل الغزوة وفي ثناياها.
وبهذه المناسبة يرسم السياق الطريق اللائق بالمؤمنين الصادقي الإيمان:
{ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون}.
فهذا هو أدب النفس وأدب اللسان، وأدب الإيمان: الرضا بقسمة الله ورسوله، رضا التسليم والاقتناع لا رضا القهر والغلب. والاكتفاء بالله، والله كاف عبده. والرجاء في فضل الله ورسوله والرغبة في الله خالصة من كل كسب مادي، ومن كل طمع دنيوي.. ذلك أدب الإيمان الصحيح الذي ينضح به قلب المؤمن. وإن كانت لا تعرفه قلوب المنافقين، الذين لم تخالط بشاشة الإيمان أرواحهم، ولم يشرق في قلوبهم نور اليقين.
وبعد بيان هذا الأدب اللائق في حق الله وحق رسوله، تطوعًا ورضا وإسلامًا، يقرر أن الأمر- مع ذلك- ليس أمر الرسول؛ إنما هو أمر الله وفريضته وقسمته، وما الرسول فيها إلا منفذ للفريضة المقسومة من رب العالمين. فهذه الصدقات- أي الزكاة- تؤخذ من الأغنياء فريضة من الله، وترد على الفقراء فريضة من الله. وهي محصورة في طوائف من الناس يعينهم القرآن، وليست متروكة لاختيار أحد، حتى لا اختيار الرسول: {إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم}.
وبذلك تأخذ الزكاة مكانها في شريعة الله، ومكانها في النظام الإسلامي، لا تطوعًا ولا تفضلًا ممن فرضت عليهم. فهي فريضة محتمة. ولا منحة ولا جزافًا من القاسم الموزع. فهي فريضة معلومة. إنها إحدى فرائض الإسلام تجمعها الدولة المسلمة بنظام معين لتؤدي بها خدمة اجتماعية محددة. وهي ليست إحسانًا من المعطي وليست شحاذة من الآخذ.. كلا فما قام النظام الاجتماعي في الإسلام على التسول، ولن يقوم!
إن قوام الحياة في النظام الإسلامي هو العمل- بكل صنوفه وألوانه- وعلى الدولة المسلمة أن توفر العمل لكل قادر عليه، وأن تمكنه منه بالإعداد له، وبتوفير وسائله، وبضمان الجزاء الأوفى عليه، وليس للقادرين على العمل من حق في الزكاة، فالزكاة ضريبة تكافل اجتماعي بين القادرين والعاجزين، تنظمها الدولة وتتولاها في الجمع والتوزيع؛ متى قام المجتمع على أساس الإسلام الصحيح، منفذًا شريعة الله، لا يبتغي له شرعًا ولا منهجًا سواه.
عن ابن عمر- رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم: «لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي».
وعن عبد الله بن عدي بن الخيار أن رجلين أخبراه أنهما أتيا النبي صلى الله عليه وسلم يسألانه من الصدقة، فقلب فيهما البصر، فرآهما جلدين، فقال: «إن شئتما أعطيتكما. ولا حظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب».
إن الزكاة فرع من فروع نظام التكافل الاجتماعي في الإسلام. وهذا النظام أشمل وأوسع كثيرًا من الزكاة؛ لأنه يتمثل في عدة خطوط تشمل فروع الحياة كلها، ونواحي الارتباطات البشرية بأكملها، والزكاة خط أساسي من هذه الخطوط.
والزكاة تجمع بنسبة العشر ونصف العشر وربع العشر من أصل المال حسب أنواع الأموال. وهي تجمع من كل من يملك حوالي عشرين جنيهًا فائضة عن حاجته يحول عليها الحول. وبذلك يشترك في حصيلتها معظم أفراد الأمة. ثم تنفق في المصارف التي بينتها الآية هنا، وأول المستحق لها هم الفقراء والمساكين. والفقراء هم الذين يجدون دون الكفاية، والمساكين مثلهم ولكنهم هم الذين يتجملون فلا يبدون حاجتهم ولا يسألون.